التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان
التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان
لا يهدف هذا التحليل إلى سرد تاريخي للسياسات الزراعية في السودان، بل يسعى إلى تقديم تشخيص استراتيجي لأزمة “الخيال التنموي” التي سيطرت على النخب الحاكمة المتعاقبة. فهناك رابط بنيوي بين “العقلية الاستخلاصية” التي اختزلت الزراعة في كونها مجرد أداة لتوليد الإيرادات للدولة، وبين استمرار الصراعات وتعمق التهميش التنموي في أقاليم البلاد. إن الفشل في السودان لم يكن فشلاً في الموارد، بل كان “فشلاً في الخيال” لدى من أداروا شؤون البلاد.
إن فهم الإخفاقات التاريخية للسياسات الزراعية في السودان، التي غالبًا ما تعاملت مع القطاع الزراعي من منظور ضيق، لا يمثل مجرد ممارسة نقدية، بل هو خطوة استراتيجية ضرورية لاستخلاص الدروس التي تمنع تكرار الأخطاء وتؤسس لسياسات جديدة ترتكز على أسس مختلفة جذريًا. ومن خلال تتبع تطور النظرة العالمية لدور الزراعة في التنمية، نجد أنها لم تكن ثابتة، بل تطورت مع تطور الفكر الإنساني. ويمكن تقسيم هذا التطور الفكري إلى ثلاث مراحل رئيسية، لمعرفة موقع فكر النخب السودانية ضمن هذه المراحل المتعاقبة، مما قد يفسر الكثير من واقعنا الحالي.
في هذه المرحلة، كان الهدف الأوحد للزراعة هو توفير المواد الخام الرخيصة والأساسية لتغذية القطاع الصناعي في الدولة المُستعمِرة. ويُعد مشروع الجزيرة المثال الأبرز على هذه الفلسفة؛ فقد كان الهدف الأساسي للمشروع هو تزويد مصانع النسيج البريطانية بالقطن بأسعار منخفضة ومستقرة، وليس تحقيق التنمية للمزارع السوداني أو المجتمع المحلي. بعد الاستقلال، ورثت الحكومات الوطنية هذا النموذج، لكنها قامت بتعديله ليخدم أهدافًا اقتصادية وطنية بدلاً من الصناعية الخارجية، مما أدخلنا في المرحلة الثانية.
تغيرت النظرة للزراعة من مجرد داعم للصناعة إلى قطاع اقتصادي حيوي ومصدر رئيسي للدخل القومي والعائدات التصديرية. وأصبح الهدف هو تعظيم العائد الاقتصادي من الأنشطة الزراعية. ووفقًا لهذا المفهوم، قامت الحكومات المتعاقبة في السودان بتكرار نموذج مشروع الجزيرة في مشاريع جديدة مثل مشروع الرهد وحلفا الجديدة، مع التركيز على الإنتاج بغرض التصدير. وامتد هذا الفكر ليشمل الزراعة المطرية، حيث ركزت الدولة على الزراعة المطرية الآلية في مناطق مثل القضارف والنيل الأزرق، والتي سيطرت عليها الشركات الكبرى لإنتاج محاصيل تصديرية كالسمسم وعباد الشمس.
أدت هذه السياسات إلى عواقب وخيمة، إذ تم إهمال مناطق الزراعة المطرية التقليدية وملايين صغار المزارعين الذين يمثلون عصب الحياة في الريف. كما أسفر التوسع في الزراعة الآلية عن ضغط شديد على المراعي والأراضي التقليدية. ونشبت صراعات عنيفة حول الموارد، خاصة الأرض والمياه، نتيجة لسياسات نزع الأراضي لصالح المشاريع الكبرى. ومن ناحية أخرى، حُرم صغار المزارعين من الائتمان الرسمي، حيث لم يتجاوز نصيبهم 0.5% من قروض البنك الزراعي، مما دفعهم للجوء إلى آليات تمويل استغلالية.
بواسطة MA.A
on
نوفمبر 03, 2025
Rating:

ليست هناك تعليقات